- " أحتاج إلى أمضائك كي أحصل على شهادة المشاركة في الثورة. لا أخفي عنك بأنني اتصلت ببعض المجاهدين وقالوا لي: إذا أمضي لك سي مصطفى، فنحن مستعدون وفي أية لحظة"
صعق مصطفى عمروش وكاد يختنق غيظاً ولكنه كتم غضبه ولم يقل شيئاً، كانت كل الاحتمالات ممكنة إلا هذه.
يريد السرجان أن يصبح مجاهداً بعد ربع قرن من الاستقلال .. هذه نكتة العصر ..لِمَ لا وكل الخونة أصبحوا يملكون هذه البطاقة كأنها خاتم سيدنا سليمان، تفتح الأبواب الموصدة وتنطق الجماد وتحيي الأموات. سي أحمد السرجان مجاهد.. ها..ها.. بعد أن ملك القرية وما عليها، أراد أن يعيد الاعتبار إلى نفسه، اشترى كل شيء، فلماذا لا يشتري البطاقة ومعها البطولة والشرف والاعتزاز، ولكن ماذا يفعل بها؟ يتهافت الفقراء عليها كي يكسبوا امتيازات مادية، هذا معقول! أما هو فماذا يفعل بها؟ ربما يريد ترشيح نفسه في انتخابات المجلس الشعبي الوطني. لا أظنه يفكر في مثل هذا الأمر. سؤال وحيد خلط مخ مصطفى عمروش بعد أن أفرغ السرجان أخيراً بالسر المكنون في طياته بعد الصداقة المفتعلة والاغراءات المتكررة. ماذا يفعل بالبطاقة؟
- أنت تمزح ياسي أحمد! ماذا تستفيد من امتلاكك لهذه الورقة؟
- لا أحتاج مالاً ولا سلطة ولا تخسرون معي ديناراً واحداً. إن عدم امتلاكي هذه البطاقة جعل الألسنة تتهمني بالخيانة أثناء الثورة، ويعلم الله أنني لم أبع أحداً ولم أخن.
كنتُ تاجراً أميناً وساعدت الأخوة بالمال والمؤونة، وأصارحك بأنهم كانوا يترددون على داري في ليال كثيرة وكنت في كل مرة أزودهم بالمواد الغذائية اللازمة.
قاطعه مصطفى عمروش بعنف وانفعال ظاهرين.
- لمن تحكي تاريخك ياسي أحمد، أنا أعرف عنك وعن رجال القرية ونسائها كل ما ينبغي أن يُعرف، المرة الوحيدة التي دخل فيها المجاهدون إلى دارك، جاؤوا لانذارك وتهديدك لأنك كنت ترفض البيع لعائلات المجاهدين والشهداء الله يرحمهم برحمته الواسعة وكنت أنا ضمن الفرقة ولكنني آثرت البقاء خارج البيت للحراسة. اترك البير بغطاه، ولا تحرك المزبلة، فقد تنبعث منها روائح نتنة لا ترضيك.
خيم صمت مفاجىء وأصبح المكان يضيق بالرجلين كأن السيارة اقفرت فجأة بحيث لا تتسع لجسميهما المكهربين، اقتربت شاحنة ضخمة مكدسة بالأعمدة الخشبية فغطى ضجيجها المكان كله، مرت مسرعة قرب السيارة التي اهتزت قليلاً وتحرك جسما الرجلين بداخلها، مما جعلهما يتنفسان قليلاً ويستردان توازنهما.
أضاف مصطفى عمروش مكسّراً الصمت الثقيل.
- إنك تعيش في عزّ ونعيم ولا ينقصك شيء وحتى إن امتلكت هذه البطاقة التي تبدو لك سحرية، لا تغير من الوضع شيئاً.. الناس تعرف وتحكي في كل مكان، هل يمكنك منعهم من الكلام؟ طبعاً لا، لا أحد يمنعهم من الكلام حتى إن كان يضره ويهدد وجوده وكيانه.
إن امتلكها، يقول الناس أنك اشتريتها بمالك مثلما تشتري أية بضاعة. تريد رأيي صراحة، دعك من هذه البطاقة، فهي لا تزيد فيك شيئاً.
انكمش السرجان في مكانه خلف المقود، فقد شجاعته وكبرياءه وأصبح يشبه المومس التي تذل نفسها وتتضرّع أمام " شيكورها " تاه مدة يسترجع قواه ثم قال في نبرة صوت هادئة هي أقرب إلى التوسل منها إلى الطلب العادي.
- كن عاقلاً يا سي مصطفى.. لا يكلفك الإمضاء شيئاً، بل ستريح الكثير معي، فخيري كالبحر.. هي بطاقة أضعها في جيبي وكفي.. لا أطلب منكم خدمة ما، فكثير من الناس في القرية وأنت أول من يعرفهم، يملكون بطاقات النضال وهم لم يغادروا ديارهم خلال السنوات السبع. فلماذا ترفض لي أنا بالضبط؟
إحتار مصطفى عمروش في الأمر. هل يقول له بأن هذه الأفعال ليست من مسؤوليته وحده بل يوجد من المجاهدين من لا يتردد عن الإمضاء مقابل قسط زهيد من المال. خطرت إلى ذهن السرجان فكرة تواني في البرح عنها. خاف من رد فعل خصمه الذي يعرف بنزاهته. فهو لا يباع ولا يشتري. أدار الفكرة في رأسه مراراً ثم تجرأ وأفرغ الإقتراح دفعة واحدة:
- أنا مستعد للدفع أطلب ما تريد وسأحضرها لك في الحين.
إندفع مصطفى عمروش وتحرك في مكانه، أراد النهوض، لمس برأسه السقف الداخلي للسيارة: نسي أنه بداخلها، فتح الباب وقبل أن يخرج أدار رأسه كلية نحو السرجان وصرخ بغيظ:
- المسألة مسألة ضمير وليست مسألة مال، ثم اسمع لي جيداً، سأبوح لك بسرٍّ طالما كتمته في قلبي. من باع "سعيد سِتْواح" المجاهد الجريح الذي كان مختفياً في دارلالة فطومة آه.. قل لي.. من أوصل الخبر إلى "مِسْيو غُومِيز" الذي أوصله بدوره إلى الجيش الفرنسي؟
أنت محظوظ، وعمرك طويل.. عرفت الخبر بعد الاستقلال بسنوات، لو عرفته في حينه لـ.. وبانفعال شديد، غادر السيارة ضارباً الباب بقوة واتجه نحو القرية راجلاً وغاضباً يأكل نفسه من الندم لأنه لم يعرف الخبر في الوقت المناسب، ولو عرف الخبر في حينه لذبح السرجان بسكين صدئة كي يطلق شخيراً مثل شخير الحلوف البري ويصارع الموت ليلة كاملة قبل أن يلفظ أنفاسه.
لم يلتفع نحو السرجان الذي خرج هو أيضاً من السيارة راكضاً وراءه، صائحاً:
- إنك تظلمني.. أقسم لك بشرفي وأمي المدفونة تحت التراب وبدم الشهداء الطاهر أنني لم أبع أحداً.. من قال لك هذا الكلام؟ أنا مستعد لمواجهته.. أنا بريء.. أنا بريء.. كان يتوسّل يتضرّع، يريد أن يبكي، أن يفعل أي شيء لاثبات براءته أمام مصطفى الذي واصل سيره ولم يهتم بكلامه. كان مقتنعاً بفعل الخيانة، اقتناعاً راسخاً لا يزحزحه زالزال مهما كان عنفوانه، كان يفكر بسرعة جنوينة، ومخه يغلي غلياناً بركانياً وصوت العجوز التي اعترفت له بالسر يرن في أذنيه، مدوياً ومتحدياً كل الأصوات، كأنه يستمع إليه في اللحظة نفسها، رغم مرور سنوات طويلة منذ ذلك اليوم الذي قاده الطريق إلى إحدى الدشور المجاورة للقرية، وأثناء عبوره الدروب الملتوية، صادف عجوزاً ترعى بعض الماعز فسلم عليها وردت عليه منادية إياه باسمه، فسألها إن كانت تعرفه فأجابته: تعرف الأسود في كل مكان.
كان متعباً من المشي، فاغتنم الفرصة ليستريح قليلاً، وتجاذب معها أطراف الحديث فاتضح أنه يعرف ابنها الشهيد ابراهيم الذي قتل في احدى المعارك. وقالت أن لها ابنا آخر هاجر إلى فرنسا ولم تعد تسمع عن أخباره شيئاً، فلولا بناتها الخمس لماتت جوعاً وافترس الذئاب جثتها الهزيلة الناشفة. كانا على قمة رابية، والقرية تبدو واضحة المعالم في الأسفل وكانت الأشغال قد انطلقت في تشييد قصر السرجان وكان قد كثر الحديث العجيب عن أسرار قصره من الداخل. نطقت دون مقدمات:
يتبـــــع